الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأيضا فإن ذمتهم لا تسقط، حدود الإسلام عنهم، من القطع في سرقة أموالهم والقتل لمن قتلوه منهم وإن كان ذلك حلالا عندهم فكذلك سبهم للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقتلون به وردت لأصحابنا ظواهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذمي بالوجه الّذي كفر به ستقف عليها من كلام ابن القاسم وابن سحنون بعد.وحكى أبو المصعب الخلاف فيها عن أصحابه المدنيين، واختلفوا إذا سبه ثم أسلم فقيل: يسقط إسلامه قتله، لأن الإسلام يجب ما قبله، بخلاف المسلم إذا سبه ثم تاب لأنا نعلم باطنه الكافر في بغضه له، وتنقصه بقلبه، لكنا منعناه من إظهاره، فلم يزدنا ما أظهر إلا مخالفة للأمر ونقضا للعهد، فإذا رجع عن ذنبه الأول إلى الإسلام سقط ما قبله.قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [8: 38] والمسلم بخلافه إذ كان ظننا بباطنه حكم بظاهره وخلاف ما بدا منه الآن، فلم يقبل بعد رجوعه، ولا استنمنا الي باطنه إذ قد بدت سرائره وما ثبت عليه من الأحكام باقية عليه لم يسقطها شيء.وقيل: لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله لأنه حق للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجب عليه لانتهاكه حرمته وقصده إلحاق النقيصة والمعرة به فلم يكن رجوعه إلي الإسلام بالذي يسقطه كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه من قتل وقذف، وإذا كنا لا نقبل توبة المسلم فإن لا نقبل توبة الكافر أولي.قال مالك في كتاب ابن حبيب (المبسوط) وابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ فيمن شتم نبينا صلّى الله عليه وسلّم من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء عليهم السلام: قتل إلا أن يسلم وقاله ابن القاسم في (العتبية) وعند محمد وابن سحنون وقال سحنون وأصبغ: لا يقال له أسلم ولا تسلم ولكن إن أسلم فذلك له توبة. وفي كتاب محمد أخبرنا أصحاب مالك أنه قال: من سب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب وروي لنا عن مالك: إلا أن يسلم الكافر. وقد روى ابن وهب عن ابن عمر أن راهبا تناول النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال ابن عمر: فهلا قتلتموه؟ وروى عيسى عن ابن القاسم في ذميّ قال: إن محمدا لم يرسل إلينا إنما أرسل إليكم وإنما نبينا موسى أو عيسى ونحو هذا لا شيء عليهم لأن الله تعالى أقرهم على مثله.وأما إن سبه فقال: ليس بنبي، أو لم يرسل أو لم ينزل عليه قرآن وإنما هو شيء تقوله أو نحو هذا فيقتل.قال ابن القاسم: وإذا قال النصراني ديننا خير من دينكم إنما دينكم دين الحمير ونحو هذا من القبيح، أو سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمد رسول الله فقال: كذلك يعطيكم الله، ففي هذا الأدب الموجع والسجن الطويل.قال: وأما إن شتم النبي صلّى الله عليه وسلّم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم، قاله مالك غير مرة، ولم يقل: يستتاب.قال ابن القاسم: ومحمل قوله عندي إن أسلم طائعا. وقال ابن سحنون في سؤالات سليمان بن سالم في اليهودي يقول للمؤذن إذا تشهد: كذبت، يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن الطويل.وفي (النوادر) من رواية سحنون عنه: من شتم الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الّذي به كفروا ضربت عنقه إلا أن يسلم.قال محمد بن سحنون: فإن قيل: لم قتلت في سب النبي صلى الله عليه وسلّم ومن دينه سبه وتكذيبه؟قيل: لأنا لم نعطهم العهد على ذلك، ولا علي قتلنا، وأخذ أموالنا، فإذا قتل واحدا منا قتلناه، وإن كان من دينه استحلاله فكذلك إظهاره لسب نبينا صلّى الله عليه وسلّم.قال سحنون: كمال بذل لنا أهل الحرب الجزية على إقرارهم على سبه لم يجز لنا ذلك في قول قائل، كذلك ينتقض عهد من سب منهم، ويحل لنا دمه، وكما لم يحصن الإسلام من سبه من القتل كذلك لا تحصنه الذمة.قال القاضي أبو الفضل: ما ذكره ابن سحنون عن نفسه وعن أبيه مخالف لقول ابن القاسم فيما خفف عقوبتهم فيه مما به كفروا فتأمله ويدل على أنه خلاف ما روى عن المدنيين في ذلك، فحكى أبو المصعب الزهري قال: أتيت بنصرانيّ قال: والّذي اصطفي عيسى على محمد فاختلف عليه فيه فضربته حتى قتلته أو عاش يوما وليلة وأمرت من جرّ برجله، وطرح علي مزبلة فأكلته الكلاب.وسئل أبو المصعب عن نصرانيّ قال: عيسى خلق محمدا فقال: يقتل وقال ابن القاسم: سألنا مالكا عن نصراني بمصر شهد عليه أنه قال: مسكين محمد! يخبركم أنه في الجنة! ما له لم ينفع نفسه؟ إذ كانت الكلاب تأكل ساقيه؟ لو قتلوه استراح منه الناس.قال مالك: أري أن تضرب عنقه، قال ولقد كدت أن لا أتكلم فيها بشيء، ثم رأيت أنه لا يسعني الصمت.قال ابن كنانة في (المبسوطة): من شتم النبي صلّى الله عليه وسلّم من اليهود والنصارى فأري للإمام أن يحرقه بالنار وإن شاء قتله، ثم حرق جثته، وإن شاء أحرقه بالنار حيا إذا تهافتوا في سبه.ولقد كتب إلي مالك من مصر وذكروا مسألة ابن القاسم المتقدمة قال: فأمرني مالك فكتبت بأن يقتل وتضرب عنقه، فكتبت، ثم قلت: يا أبا عبد الله واكتب: ثم يحرق بالنار، فقال: إنه لحقيق بذلك، وما أولاده به كتبته بيدي بين يديه فما أنكره ولا عابه ونفذت الصحيفة بذلك، فقتل وحرق.وأفتي عبيد الله بن يحيي وابن لبابة في جماعة من سلف أصحابنا الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفي الربوبية ونبوة عيسى للَّه وتكذيب محمد في النبوة وبقبول إسلامها ودرء القتل عنها به، قال غير واحد من المتأخرين منهم القابسي وابن الكاتب وقال أبو القاسم بن الجلاب في كتابه: من سب الله ورسوله من مسلم أو كافر قتل ولا يستتاب.وحكي القاضي أبو محمد في الذمي يسب ثم يسلم روايتين في درء، القتل عنه بإسلامه، وقال ابن سحنون: وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لا يسقطه عن الذمي إسلامه وانما يسقط عنه بإسلامه حدود الله، فأما حد القذف فحق للعباد كان ذلك لنبي أو غيره، فأوجب على الذميّ إذا قذف النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلم حد القذف ولكن انظر ما ذا يجب عليه، هل حد القذف في حق النبي صلّى الله عليه وسلم وهو القتل لزيادة حرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم على غيره؟ أم هل يسقط القتل بإسلامه ويحد ثمانين؟ فتأمله.
|